بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم والناس في ظلمات الكفر والشرك والبدع والضلالات التي أُحدثت في دين الله تبارك وتعالى، وغُيِّرَتْ بها ملة إبراهيم عليه السلام، ولم يكن الناس خلواً من العقول، بل كانوا أهل عقول تفكر، فكان عند اليونان :
أرسطو، و
أفلاطون، و
سقراط، و
أفلوطين، و
فورفوريوس وأمثالهم، وكان عند الهنود:
بيدبا الحكيم، وكان عند الفرس أيضاً أهل الأمثال والحكم؛ كـ
أنوشروان و
شيرويه، فكل أمة لها مفكرون، ولديها عقلاء بحثوا في الأمور العقلية؛ في الطبيعيات، وفي الإلهيات، وفي الرياضيـات.
والله سبحانه وتعالى بعث هذا الرسول صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور؛ قال تعالى:((
كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ))[إبراهيم:1] فكل الفلسفات التي جاء بها أولئك المفكرون ظلمات لا تغني من الحق شيئاً، ولا تغني الناس عن الوحي، ولا تغنيهم عن الكتاب، ولا تغنيهم عن بعثة رسول، ولو أن الناس يستغنون عن الرسل بتلك الفلسفات، لوكلوا إليها، ولما احتيج إلى رسول يبعثه الله.
وقد أرسل الله سبحانه وتعالى هذا الرسول النبي الأمي محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل بالحق المبين، ودعا إليه الخلق أجمعين، ولم يجعل طريقاً إلى معرفته ولا إلى جنته إلا طريق هذا الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يسع أحداً -كائناً من كان- أن يخرج عن شريعته وأمره ونهيه وما جاء به أبداً.
وبعد أن أظهر الله تعالى هذا الدين على العالمين، وأخضع له الدولتين العظيمتين؛ جاء فروخ
الفلاسفة واليهود والنصارى، وأخذوا الفلسفات والحكم -بزعمهم- وقالوا: لابد من تعلمها ومن نشرها بين المسلمين.
وهناك اختلاف حول تحديد من كان السبب في نشر الفلسفة اليونانية، وفي ترجمة كتبها، ولا يهمنا ذلك التحديد بقدر ما يهمنا أن الأمر قد وقع، وأن أناساً أعرضوا عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلبوا الهدى في غير ما شرع الله، فقالوا: وما لنا لا نتعلم ونقرأ حكمة
اليونان، ونقرأ حكمة
الهند و
فارس و
الصين، ونفيد منها، فإنهم كانوا أهل عقول؟! فنقول: نعم كانوا أهل عقول؛ ولكن لو أن هذه العقول تجدي وتهدي لما احتيج إلى رسول.
لكنهم هكذا ظنوا، وبعضهم في الأصل يعتقدون هذه الأديان والفلسفات، ولم يخرجوا عنها، كما هو حال
الصابئة وأمثالهم، لكنهم تستروا بالإسلام نفاقاً، كما فعل المنافقون في
المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يرون الآيات الباهرات على نبوته وصدق رسالته، فما بالكم بالذين دخلوا الإسلام في غير عهده صلى الله عليه سلم؟! ألا ينافقون؟! لقد نافقت كثير من الأمم، فأظهروا الإسلام وأبطنوا خلاف ذلك، ومما يدعو إلى هذا النفاق أن الدين الإسلامي العظيم هو دين العقل، وهو دين التفكر والتدبر، فمن هنا دخل بعض المنافقين وأعجبوا بما في هذا الدين من الحث على التدبر والتفكر، فأخذوا بهذا الجانب، ولكنهم تفكروا وتدبروا في غير ما أمروا أن يتفكروا فيه ويتدبروا، وأعملوا عقولهم كما يشاءون؛ فقالوا: نحن نفكر ونتدبر، ونحن نقيم الحجة على الكافر.
وهناك بعض العلماء دافع عن
المعتزلة، ولا نعني بذلك علماء السنة الذين عاصروهم وعرفوهم، والذين يحتج بقولهم، ولكن بعض الكتاب أو بعض المتأخرين؛ يدافع هؤلاء الكتاب عن
الجهمية أو
المعتزلة أو أشباههم؛ بحجة أنهم كانوا على حسن نية، وأنهم يريدون الدفاع عن الإسلام؛ فنقول: النيات علمها عند الله، والمحاسب عليها هو الله؛ لكن: أيدافع عن الإسلام بما يهدمه؟! أيدافع عن القرآن بأن يضرب بعضه ببعض؟! أتلغى آيات الوعد لتنفذ آيات الوعيد؟! أتهمل آيات الصفات لتنفذ آيات التنزيه؟!
إن الدفاع عن كتاب الله ودينه إنما يكون باتباع منهج رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد كتب صلى الله عليه وسلم إلى
هرقل إمبراطور تلك الأمة -التي جاءت بهذه الفلسفات وهذه المعقولات والنظريات- رسالة يدعوه فيها إلى الإسلام، وقد كان أباطرتهم على علم بهذه العلوم جميعاً، ويتربون على عقيدتهم وعلى دينهم النصراني المحرف، ولم يكتب صلى الله عليه وسلم إلى
هرقل في تلك الرسالة عقلانيات مجردة، ولا أنه صلى الله عليه وسلم سيرسل إليه وفداً ليناظروه وليتجادل معهم بنفسه، أو ليخرج من علمائه من يجادلهم، ومن يغلب يكن الحق معه... ما فعل ذلك صلى الله عليه وسلم، بل كتب إليه: {
من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و(( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ))[آل عمران:64] } ... الحديث. وذلك استجابة منه صلى الله عليه وسلم لما أمره به عز وجل بقوله: ((
قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ))[الأنبياء:45] والوحي هو القرآن والسنة التي تشرحه وتفسره.
فهذه رسالته صلى الله عليه وسلم إلى عظيم الروم؛ آية من كتاب الله سبحانه وتعالى، ومقدمة قصيرة قبلها؛ فإن آمن فقد آمن بما أنزل الله واتبع كتاب الله، وإن كفر فقد كفر بكتاب الله؛ فالمناط هو كتاب الله، وهو الوحي الذي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر به.
وإن
المعتزلة وأشباههم لهم صلة قوية جداً بما كان عليه
فلاسفة اليونان، ومتكلمو النصارى، ونشأتهم ظاهرة التأثر بهؤلاء، وقد مر معنا في مبحث الكلام بيان شيء من هذه الحقيقة.